جنين ما قبل النكبة | أرشيف

مدينة جنين عام 1900 ميلادي

 

المصدر: «مجلّة المنبر».

الكاتب (ة): علي محمّد سرطاوي – مدير المدرسة الثانويّة في مدينة جنين.

زمن النشر: نيسان (إبريل) 1947.

العنوان الأصليّ: «جنين».

 


 

يمثّل تقدّم هذه المدينة ناحية من نواحي النشاط العربيّ في هذه البلاد، كما يتّضح من هذا المقال الّذي خصّ به كاتبه «مجلّة المنبر» - المحرّر.

 

تقوم على سفح تلّة، في الطريق الجنوبيّ من سهل مرج ابن عامر، في بقعة جعلت منها المياه الغزيرة المتدفّقة هنا وهناك جنّة من جنّات النعيم. حينما تطلّ عليها من الجنوب تستقبلك الأشجار الباسقة على جانبيّ الطريق، في صفوف طويلة قد تعانقت أغصانها وقلّ أن تجد لها مثيلًا. تحيط بها أشجار الفاكهة وبساتين الخضار إحاطة السوار بالمعصم، فتبعث في النفس روعة، وتوقظ في العواطف الإحساس العنيف بجمال الوجود. وإذا سرحت الطرف، إلى ما وراء تلك الهالة الخضراء الّتي تكفّ المدينة الجميلة، انتهى الأفق بك شرقًا إلى جبال جلبوع الّتي قُتِلَ على سفوحها شاؤول، وانتهى بك شمالًا إلى الناصرة المدينة الخالدة الّتي عاش فيها المسيح، وانتهى بك غربًا إلى تعنّك ومجدّو فالكرمل فزرقة الموج البعيد، وترامى بين هذه الأماكن ذلك السهل الجميل الّذي طالما طافت به مواكب التاريخ وأقدام الأنبياء، ولوّثته أبالسة من الجحيم وشياطين من بني الإنسان.

ورد ذكرها في التوراة ومرّ بها المسيح، وكانت تدعى عين جنيم، أي ’عين البساتين‘، ولوقوعها على مداخل الطرق المؤدّية إلى الجنوب، مرّ بها أو على مقربة منها الفاتحون، من تحتيمس الثالث إلى اللورد اللنبي، واعتنت السيّدة فاطمة خاتون ابنة محمّد بك ابن السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري المشهور، اعتنت بها عناية عظيمة، فشيّدت الجامع الكبير وألحقت به تكيّة للفقراء وأبناء السبيل وبنت حمّامًا وحوانيتًا تدرّ عليه موردًا كافيًا، ومنحته بوقفيّتها المشهورة أوقافًا في عدّة جبهات من شمال فلسطين وسوريّا ودمشق.

 

من أرشيف «مجلّة المنبر»

 

لم يتجاوز عدد سكّانها في القرن الماضي ثلاثة آلاف نسمة، وهبط هذا الرقم إلى 1400 أثناء الحرب العالميّة الأولى (1914 – 1918)، ثمّ أخذ سكّانها في ازدياد، ففي عام 1931 كان عددهم 2774، وفي عام 1938 كان 3179، وفي عام 1943 بلغ خمسة آلاف نسمة.

ترجع قلّة سكّانها في الماضي إلى مرض المالاريا، الّذي كان ينشأ عن مجرى عين من الماء تسمّى «عين نينه»، ثمّ إلى سبب آخر يتّصل بشرب السكّان مياهًا ملوّثة بالجراثيم من جرّاء مرور قناة من الماء داخل المدينة، فكان ذلك مدعاة إلى انتشار أمراض العيون والأمراض الداخليّة الأخرى. ولقد أدّى التعاون بين البلديّة وإدارة الصحّة إلى استئصال شأفة هذين العدوّين اللدودين، فصارت مياه «عين نينه» تسير في أقنية من الإسمنت مسافة طويلة، وحفرت البلديّة بئرًا ووزّعت المياه النقيّة المعقّمة على البيوت في أنابيب ونظام يكفل للسكّان الحصول على مياه نظيفة للشرب.

اتّسعت المدينة، وازداد العمران فيها ازديادًا يبشّر بالخير ويدعو إلى التفاؤل، وأخذت الضاحية القريبة المسمّاة بالمحطّة تنقلب إلى مدينة جميلة. والّذي يعرف المدينة منذ عشرين عامًا، يدهشه هذا النشاط والتقدّم. ولقد شمل هذا النشاط المدينة القديمة، فوسّعت شوارعها وازدادت العناية بها، فبعد أن كانت أزقّة ضيّقة، أصبحت شوارع معبّدة وأُنِيرَت بالكهرباء.

في المدينة مدرستان؛ الأولى للصبيان وهي ثانوية كاملة، والثانية للبنات وهي ابتدائيّة تامّة. ويبلغ عدد طلّاب المدرسة الثانويّة 800 طالب موزّعين على خمسة عشر صفًّا وعدد طلّاب مدرسة البنات 400 طالبة تقريبًا. ويقوم بالتدريس في هاتين المدرستين ما لا يقلّ عن ثلاثين مدرّسًا ومدرّسة. وتزيد حديقة المدرسة الثانويّة على ثلاثين دونمًا، والتعليم الزراعيّ يقوم فيها على أسس علميّة وتجارب فنّيّة؛ ففيها أحواض دافئة لزراعة البذور المبكّرة، مبنيّة على نمط حديث، وغرفة للتفقيس بواسطة الماكنات الخاصّة وبيت رحب لتربية الدواجن. وغرست أقسام منسّقة من الحديقة بضرورب من أشجار الفاكهة والكرمة والزيتون والتين. وفي المدرسة الثانوية قسم داخليّ للطلّاب القرويّين يبلغ عدد طلّابه مائة وخمسة من مختلف القرى في المنطقة وخارجها.

وإقبال الناس على العلم والبذل لا مثيل له في أيّ مكان في فلسطين. إذ لا يوجد طالب أو طالبة في سنّ التعليم خارج المدرسة، والسرّ في ذلك أنّ هذه المدينة عربيّة قحّة، والعربيّ مولع بالعلم يبذل له بسخاء لا مزيد عليه.

وتؤلّف الزراعة عنصرًا أساسيًّا في حياة المدينة وتقدّمها، فحولها مساحات واسعة ترزع بأنواع الخضار وتباع في الأسواق المحلّيّة المجاورة، وحولها مساحات أخرى للفاكهة والحبوب الصيفيّة والشتويّة. وتربّى الماشية فيها وفي المنطقة حولها على نطاق واسع، وتشتهر المنطقة بصنع أحسن نوع من الجبن في فلسطين. كما أنّ لتربتها أثرًا كبيرًا في إعطاء طعم شهيّ لبرتقالها وخضارها وفواكهها.

وجنين ذات مستقبل؛ فستقام فيها حدائق عامّة، وتعبّد شوارعها، وتوسّع شبكة المجاري العامّة، وتؤسّس فيها أعمال صناعيّة زراعيّة، جُعِلَ في قسمها الشماليّ بموجب خارطة التنظيم الحديثة، كما سيؤسّس فيها مستشفى. وتقدّم المدينة الّذي يعتمد على نشاط محلّيّ صرف، يدعو إلى التفاؤل والاطمئنان وإن كان يسير بطيئًا.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.